ذبُلَتْ ورودها.. حاولتْ كثيراً أن تثنيَه عمّا تجده مؤذياً لها دون جدوى.. هو يصرّ أن لا بأس بما يقوم به.. وهي تفور وتغلي من هذا التصرّف الذي بات يؤرّقها.. لم ينفع الحوار الذي كان ينقطع من بدايته إثر عاصفة تجتاحهما معاً كلما فتحا الموضوع.. ليعودا لنقطة الصفر.. فيغضب وتحمرّ عيناها! إنقطعت السبل.. فبدأت تخطّ النهاية لزواجٍ يانع أخضر!
وفي سكنٍ آخر.. زوجٌ يحبّ زوجته.. ولكنه يريدها كصورةٍ رسمها في خياله.. فهو في دأبٍ ليغيّر ما لا يرضى فيها.. كلامها.. تصرفاتها.. لباسها.. لا يريد أن يتقبّل أنّ كل ذلك جزء من شخصيتها التي إختارها ولم يرغمه أحد عليها! فبات يقف لها عند كل مفرقٍ ليبثّ الضيق ويسطّر الملاحظات.. حتى ضاقت ذرعاً.. وضاق الفضاء!
صورٌ كثيرة نراها في حكايا واقعية تُؤلم وتُبكي.. إذ في أغلبها يصل الزوجان إلى حائط الطلاق الصامت أو الفِعليّ لتبدأ المعاناة في عوائل ما وجد فيها النور له مسكناً! وكان مفتاح القضية كلمة: المرونة!
حين يتشبّث كلّ طرف برأيه ويريد فرض رؤيته على الآخر.. ويعشعش العناد في رأسه.. ويبدأ بالنظر إلى شريكه في الزواج كعدوٍّ يريد تجريده من كل أسلحته لأنّه لم يتّفق معه على رأي.. ويصبح التعصّب سيد الموقف.. ويضيق الأفق ويقصر النظر.. ويتوهّم وتتأفّف.. فينكفئ على ذاته وتبعُد.. يسقط كلٌّ منهما في جبّ الهوى!
يُعَرِّف الأستاذ أنس الأحمدي المرونة بأنها الإستجابة الإنفعالية والعقلية التي تمكِّن الإنسان من التكيّف الإيجابي مع مواقف الحياة المختلفة، سواء كان هذا التكيّف بالتوسط أو القابلية للتغيُّر أو الأخذ بأيسر الحلول.. فتكون ثمراتها الصّحة النّفسية.. والنظرة الإيجابية للحياة.. والإستمرارية في العطاء.. والإتصال الفعال.. فهل نزهد في هذه الثّمرات وإنعكاساتها على الحياة الزوجية السعيدة فقط لأننا نحترف التعصّب والعناد؟! ألا يستحق إستقرار أسرنا بعض تنازل وكثير مرونة؟!
عبارات تتردّد فتهزّ صرح الحياة الزوجية.. هي تقول: كرامتي لا تسمح لي! عزّة نفسي تمنعني! لا أستطيع السكوت والتغيّر! لا أريد أن أكون ضعيفة!... لتقابلها عبارات من الزوج لا تقلّ قسوةً وسلبيةً: أنا القوّام وعليها الإنصياع! يجب أن تتغيّر هي لتتلاءم مع ما أريد! هي مَن يفتعل المشاكل!... وغيرها من العبارات التي تجسّد الأفكار غير السويّة!
مَن قال إن الليونة ضعف؟! منتهى القوّة أن تتقبّل وتتكيّف وتعالج الأمور بحكمة ولين! فكلٌّ يستطيع الصراخ والتلفّظ بالكلام النابي والتعنيف والرفض والسلبيّة، فهذا أسهل من التعاطي بحنكةٍ وهدوءٍ وتعديل التفكير بما يتناسب مع واقع الحال وإستيعاب الموقف لتكون ردّة الفِعل مناسِبة لإحتواء المشكلة والطرف الآخر!
هي إذاً مهارة يجب على كلٍّ من الزوجين العمل على إكتسابها، فإن العلم بالتعلّم والصبر بالتصبّر والمرونة بالتمرّن! تخيّلوا لو كانت اليد فيها أصابع ثابتة لا تتحرك! هل كان بإستطاعتنا القيام بكل الأعمال الرائعة التي نقوم بها الآن بهذه السهولة والتلقائيّة؟! بل إنّ بعض الأمور سيكون من المستحيل أن ننجزها! فتبارك الله أحسن الخالقين.. خلق لنا أصابع تتحرك بليونة ومرونة لتسهيل الحياة.. فلنتفكّر في حياتنا الزوجية لتكون بنفس السهولة واليسر حين ترتكز على مفهوم المرونة في التحرّك ضمن المتغيّرات الزوجية.. وفي حلّ المشاكل.. وفي تقبّل الإختلافات في الطرف الآخر.. وفي التعامل.. وفي العادات وطريقة الحياة.. وفي إختلاف البيئة والنفسيّة.. ليكون التركيز على الإيجابية.. وينبغي ألا تكون المرونة بشكلٍ متقطّع ومِزاجي، وإنّما بشكلٍ دائمٍ ومستمرٍ..
وهذا لا يكتمل إلا بالتواضع وخفض الجناح، والتسامح والتعالي على النفس، واستشعار نِعمة الله في هذا الزواج، والتفكّر بالهدف الأسمى في الحياة وهو رضا الله جلّ وعلا، وإستحضار الآيات والأحاديث والمواقف التي تربّي المسلم على مكارم الأخلاق والتعامل الراقي في الحياة بشكل عام وفي الحياة الزوجية بشكلٍ خاص.. يكفي أن نقرأ سيرة الحبيب صلوات ربي وسلامه عليه لندرك قمّة الروعة في هذا الجانب.. وتشبّهوا إن لم تكونوا مثلهم، فإنّ التشبّه بالكرام فلاحُ!
وقد أظهرت دراسة أجراها المستشار الأسري الأميركي رون ديل مع الدكتور دايفيد أولسون على 50.000 زوج وزوجة في أنّ المرونة في العلاقة الزوجية وفي موقف الفرد تجاه إدارة الأسرة كانت واحدة من خمسة أمور تنبئ بزواج سعيد..
وفي دراسة إستقصائية أميركية عن نقاط القوة في الحياة الزوجيّة أُجرِيَت عام 1999 وشملت 21.501 زوج من 50 ولاية أميركية، وُجِدَ أن هناك عشر نقاط قوة في الزواج يمكن أن تميّز بين الزواج السعيد وغير السعيد بنسبة 93%، وهي حسب الترتيب: التواصل.. المرونة.. التقارب.. الشخصيّة.. حلّ المشاكل.. العلاقة الحميمة.. نشاطات الفراغ.. الأهل والأصدقاء.. الإدارة الماليّة.. والمعتقدات الروحيّة.
فإحتلّت المرونة المرتبة الثانية! وقد أوعز 78% من الأزواج السعيدين أنّهم كانوا مبدعين في التعاطي مع الإختلافات ومواجهة التحدّيات والضغوطات وإيجاد المساومات عند المشاكل..
[] تذكير وذكرى..
افْعَل ما يحبّ الطرف الآخر.. وتفانى في إحترامه.. وتسابق إلى إسعاده.. وإجعل المرونة مطيّتك إلى الإستقرار.. وحينها سيغمرك شعور عارم بالسكينة والراحة والطمأنينة يجعلك تحلّق في فضاءات الجنان وأنت ما زلت على الأرض! فلا سعادة كالعطاء.. والإرضاء!
الكاتب: سحر المصري.
المصدر: موقع منبر الداعيات.